في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٩

د. محمد جلال هاشم - 08-08-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٩ | د. محمد جلال هاشم

(9)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية


ماذا يبقى لدينا بعد هذا؟
تبقى الخصائص الثقافية بوصفها منتجات إنسانية منفتحة في جانب منها (الاستقلالية) ومنغلقة في جانب آخر منها (الأيديولوجيا). وبينهما صراع محتدم قد تسيل فيه الدماء. ومناط الانفتاح في الاستقلالية هو إمكانية استخدام ذات القوالب السلوكية التي ترسخت في المجتمع للتعبير عن قيم جمالية حادثة، تدفع للحفاظ على إحساس المجتمع بسيرورته، وبالتالي يكرّس ويجوّد من عملية ممارسة السلطة داخله بما يجعل منه قوة نسبية معتبرة في محيطه. وللتدليل على هذا يمكن أن نأخذ مقولة "ليست العربية بأحدكم من أبٍ و لا أم!ٍ وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي". هنا لا اعتبار عندي للإحالة النبوية لهذه المقولة، ضعفت إسناداً أم قويت، فهذا عندي أحد تكتيكات دعم إعادة الإنتاج بإسباغ القدسية، وهو أمر أيديولوجي يعمل ضد الاستقلالية ولو بدا أنه يعمل لتدعيمها (وهذا لعمرى منهج يُضاف لتعديل وتجريح المرويّات عن النبي محمد). لكن المهم هو عملية الاستقلالية التي تنطوي عليها هذه المقولة من حيث الحفاظ على العروبة كهوية ثقافية لا علاقة لها بالعرق.
إلا أن تفريغ هذه العملية الاستقلالية من محتواها يعود لاعتلاقها بالأيديولوجيا. فهناك مقولات مناقضة لهذه المقولة بإحالات نبوية أيضاً لا تُعلي من شأن العرب فحسب، بل تجعل منهم عرقاً صافياً يمكن تحري نقائه عبر الأنساب. وهناك مقولات أخرى بنفس الإحالات النّبوية تجعل الرئاسة والملك في العرب دون غيرهم. وهذا يعني أن الاستقلالية إذا جرت في سياق أيديولوجي ناشب دون أن تكتسب وعياً نقدياً عالياً بطبيعة هذا السياق، فإنها تُفرغ من جوهر مضمونها الانفتاحي وتتحول إلى مجرد ترس في ماكينة إعادة الإنتاج الأيديولوجي للقطاعات المهمشة بغية تدجينها. وبهذا تتسمّم الثقافة وقد تتوقف عن أن تكون ثقافة وتتحول إلى محض أيديولوجيا غاشمة بمثلما رأينا في النازية والأيديولوجيا الإمبراطورية الإمبريالية في اليابان وكل أشكال الرق والاستعمار، والأيديولوجيا الإسلاموعروبية هنا في السودان وغيره.
ولتلاحظوا معي كيف تدهورت أوضاع اللغة العربية والقيم الإسلامية النبيلة الداعية لمكارم الأخلاق في سودان ما بعد الإنقاذ، متساوقةً مع اشتطاط الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. وهذا لعَمْري يعني، ضمن ما يعني، أن الثقافتين العربية والإسلامية قد أصبحتا من أولى ضحايا هذا الشطط الأيديولوجي. فنظرة عابرة لمستويات اللغة العربيّة في ظلّ نظام الإنقاذ سوف تكشف عن حالة من الانهيار والانحدار يصعب تصوّرها بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع في السّودان قبل الإنقاذ. فكأن لم تعد لافتة واحدة في بلادنا يعبرُها القارئ الحصيف دون أن يلحظ العديد من الأخطاء الإملائيّة. كما تساوق هذا التّدهور مع مستويات اللغة الإنكليزيّة، وليس أدلّ على ذلك من فضيحة "First Corner Team" ترجمةً لجملة "الفريق أوّل ركن" التي زيّنت اللافتة الخلفيّة لمؤتمر طبّي، علمي دولي، عُقد بالخرطوم قبل سنوات قلائل من سقوط نظام الإنقاذ (1). وفي الحقّ، مثل هذا أكثر من أن يُحصى!

وما المخرج؟
المخرج معلّق بالصفوة التي يقع عليها مناط تحقيق الاستقلالية، ذلك بتحررها من رِبْقة الأيديولوجيا وانطلاقها من ثم لتطوير وعيها الثقافي وتجويده لينفتح على براح التعدد الثقافي في بلادنا تأسيساً على منظور الوحدة في التنوع، لا بوتقة الانصهار. ويعني هذا تحررهم من تكتيكات الأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي تكمن في استخدام خطاب الوحدة في التنوع لتكريس وضعية بوتقة الانصهار (وهذا نوع من الاستهبال الأيديولوجي). ولا يمكن تحقيق هذا الانفتاح إلا بتدبر منظور انتمائي هوياتي جديد يقوم على تحقيق استقلالية الهوية الوطنية المركبة عن الهويات الصغرى (الإثنية) بتشريعها أولاً (أي شرعنتها) وثانياً النظر إليها على أنها تمثّل مدخلات الهوية الوطنية المركبة بغية تطمينها، لا العمل الدؤوب على محاربتها وتصويرها على أنها أكبر مهددات للتكامل الوطني. هذه العملية من شأنها أن تدفع، عن سماحة واستعداد ذاتي، هذه الهويات الصغرى إلى الانفتاح الثقافي بما يعني استقلاليتها عن انحصارها الإثني لتصبح، بوصفها قوالب ثقافية محدودة المدى سلطوياً، قادرة على التعبير عن أشواق التماهي والانتماء لأعداد معتبرة ومتزايدة لأناس من خارج حدود الإثنية، أي بفتحها على الآخرين، لا إغلاقها.
وهكذا قليلاً قليلا سوف تتحرر الإثنية من مخاوفها المنبثّة عميقا في تلافيف وعيها إزاء بكلّ خواصها الانصهارية التي لازمتها منذ نشأتها حتى من قبل بروز الدولة الوطنية. وهذا ما نعنيه بتطمين الإثنية، لا محاربتها. وتقدّم لنا تجربة لينين في تعامله مع شعوب وسط آسيا المسلمة درساً كبيراً لا غنى عن تدبّرها. ففي ظلّ الحكم القيصري كانت هذه الشعوب تتحامى تعلّم اللغة الروسية بالنظر إليها كلغة مستعمر. ولكن ما إن قام لينين بتطمين هويّاتهم الوطنية بالاعتراف بلغاتهم واتخاذها وسيلة تواصل ثقافي وتعليمي حتى أقبلت تلك الشعوب على تعلّم اللغة الروسية بجانب لغاتهم الوطنية. إنه لممّا يؤسف له أن الكتابات الأكاديمية في هذا الشأن بالتحديد قد قدّمها الكثير من الأكاديميين (انظر على سبيل المثال هيرمان بيل، 1989، وهي دراسة رائدة عبر المثقّفون السّودانيّون فوقها دون أن يولوها ما تستحقّ من التّدبّر) دون أن ينتبه لها المثقفون فيقفوا عندها دارسين ومتأملين. واليوم تقف مسألة التّعدّديّة اللغويّة والإثنيّة في السّودان كأحد أخطر تحدّيّات الدّولة الوطنيّة، من حيث فشل نخب المركز في إدارة هذا التّنوّع، من حيث انصراف السّاسة عمّا يكتبُه العلماء والأكاديميّون. وليس أخسر من شعبٍ لا تفعلُ فيه الكتابةُ النّاجعةُ فعلَها المرتجى.